د. مهدي عامري
كاتب و استاذ باحث بالمعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط، المغرب
ترددت كثيرًا قبل أن أعقد العزم على كتابة هذه السطور، لا عن عجزٍ في التعبير، ولكن لأن الكلمات كثيرًا ما تكون خائنة إذا ما كُتبت في لحظات الوعي المؤلم. لكني فكرت انه لا مجال لتاجيل البوح لان ما نعيشه داخل أسوار الجامعات المغربية من اضطرابات في الهوية الاكاديمية لجمهور غفير من الاساتذة الباحثين يستحق أن يماط عنه اللثام بقلم غاضب متمرد، فسياق الكلام بعيد عن التقبل و الرضا بهذا الواقع. و لا شك أن الحديث عن “الهوية الأكاديمية” بات اليوم مشبعًا بالتنظير، مقيدا بالحياد الكاذب، ومُغرقًا في المجاملات المؤسساتية. فالكل يتحدث عن إصلاح الجامعة، و عن الجودة، و التصنيفات، و التمويل، لكن قلة هم من يملكون الجرأة ليهتفوا باعلى صوت: ان الأكاديمي، ذاك الذي يُفترض أن يكون حاملا لمشعل الوعي، صار اليوم مُجرّد مسخٍ إداريٍّ فاقدٍ للشغف، تائهٍ بين جداول الحصص، وتقارير التقييم، و اكراهات النشر العلمي.
وبما أن الجامعات صارت تُسير كما تُدار الشركات، اصبح من الطبيعي أن يُطلب من الأستاذ أن يكون متعدد المهام: إداريًا دقيقًا، ومُكوِّنًا رقميًا، وباحثًا سريع النشر، ومقاولاً تعليمياً، ومُلهمًا للطلبة، ومُنتجًا للمعرفة، ومُلتزمًا بالسياسات العمومية، وكل ذلك براتب حقير متآكل، وتقدير رمزي، وبِنية تحتية تُشبه مستشفيات الدول الفاشلة.
صحيح أن العالم يتغير، وأن التعليم العالي ليس بمنأى عن التحولات الكبرى التي يعرفها العصر، لكن ما يحدث في جامعاتنا ليس تطورًا، بل تهشيم منهجي ومقصود لأعمدة الفكر، وتصفية بطيئة لوظيفة الجامعة النقدية. هذا واقع مر صار معه الأكاديمي يُقاس بعدد المنشورات والمقالات، لا بعمق الفكرة، ولا بقوة الحجاج، ولا بتأثيره في المجتمع. و توازيا مع هذا المشهد السمج بتنا نُنتج مئات المقالات التي لا تُقرأ، ولا تُناقش، ولا تُستثمر، بل تُركن في رفوف المجلات الأجنبية التي لا علاقة لها بسياقنا الثقافي، ولا بلغتنا، ولا بحاجات طلابنا. فأي مهزلة علمية هذه؟
هذا غيض من فيض الانحرافات. فلقد صار البحث العلمي مطية للترقي، لا أداة لفهم الواقع. و تحول التدريس الى وظيفة تقنية لا علاقة لها البتة بالرسالة التربوية للاستاذ الباحث.
ربما كان من الحتمي أن نصل منذ زمن غير يسير إلى هذا المنزلق الصعب حين خُندقت الجامعة داخل منطق السوق، واحتُقر الفيلسوف، و تم تقديس التقني، وتحولت القيم إلى مؤشرات، والمعرفة إلى “مُنتج”، والمُدرّس إلى ملف إداري بارد. و نحن لا نبالغ لأن هذا الانحدار لم يأت من الخارج فقط، بل هناك من الأكاديميين من تواطأوا بصمتهم، أو بخنوعهم، أو بتقربهم من السلطة. فهناك من ارتضى لنفسه أن يكون خادمًا للبيروقراطية، لا حاملًا لحلم التغيير. و هناك من فقد روحه و كرامته و سرعان ما استبدلها بمنصب مغر لكنه زائل.
من البديهي اذا أن تكون الهوية الأكاديمية، على غرار جميع الهويات تُبنى بالحوار و التجربة و الالتزام الأخلاقي. لكن من يملك اليوم وقتًا للتأمل، أو رفاهية التفكير، أو متسعًا للحوار في قاعات مكتظة، وجداول متضخمة، ومذكرات إدارية تهوي كل صباح على رؤوس الساتذة كالقنابل ؟
هذا غيض من فيض. فالأكاديمي في زمن التمييع المعرفي، والتحول الرقمي، والرقابة الناعمة، يعيش أزمة وجود. انه ممزق بين صورة المثقف كما يرسمها ضميره، وبين صورة الموظف كما تفرضها عليه السياسات العمومية.
خلاصة القول اذا ان الهوية الأكاديمية اليوم في خطر. فهي ليست فقط مهزوزة بفعل ازمة الانتماء لجامعة هيمن عليها منطق الراسمال، بل هي في العمق هوية إنسانية مسحوقة تحت عجلة المؤسسات و بيروقراطيتها المقيتة. وما لم نقف وقفة فكرية صادقة، ونُعد للجامعة هيبتها، وللأكاديمي كرامته، وللمعرفة قدسيتها، فسنصحو يومًا على أساتذة بلا فكر و ضمير، وجامعات بلا روح، وطلاب بلا أفق.
و ختاما، فان ما عبرنا عنه اعلاه لا يطمح لأن يكون تحليلًا شاملًا، بل فقط هو صرخة في وجه الصمت، ومحاولة لكسر جدار التواطؤ. فإذا كانت الروح الأكاديمية قد فقدت تاثيرها على الجموع، فلنعد الصياغة بلغة شعبية جماهيرية: ان تربية المُضطهَدين تبدأ باستعادة الصوت، و تقديس المعنى، واعادة الاعتبار للوعي.
[ يتبع..]
9 mai 2025
Aller à la source Belgium-Times.BE
Author: abdelaaziz6